معهد الخوئي | Al-Khoei Institute

معهد الخوئي | Al-Khoei Institute
  • الإمام الخوئي
  • المكتبة المرئية
  • المكتبة الصوتية
  • المكتبة
  • الاستفتاءات

10- نفحات الإعجاز

  • ١٣٥٦١

 


 


 



















الحمد لمن أنزل القرآن، بأفصح لسان وأبلغ بيان، والصلاة والسلام على من بلّغه أحسن إبلاغ، وأقام به الحجّة على من تمرّد عليه وزاغ، وعلى آله الأطهار.


 


وبعد، فقد وقع ـ في جملة ما وقع ـ بيدي كتيب صدر من المطبعة الانكليزية الامريكانية، ببولاق مصر، سنة 1912، وهو يدعى "حسن الايجاز في ابطال الاعجاز" فحملني تصفح صفحاته على أن حملت القلم على الفور، وكتبت هذه السطور حسب الميسور، على ما أنا فيه من قصور الباع، وقلّة الاطلاع، وانشغال الذهن، وحداثة السن.


 


كما عرفني تحامل كاتبه أن بضاعته بذاءة كلمة، وهفوات قلمه، فكتبت هذا المختصر في بعض ما عليه من الرد والنقد، والله المستعان وهو حسبي ونعم الوكيل


تمهيد


 


 


القرآن، وما أدراك ما القرآن، كتاب جاء به بشر مبلغا أنه وحي يوحى (علّمه شديد القوى)(1) في العصر الوحيد في رُقىّ الفصاحة والبلاغة ـ في نوع العرب ـ وقيام سوقهما وعموم أدبهما.


 


 


وكانت دعوة القرآن باهضة لأهل ذلك العصر، مضادة لأهوائهم، مهددة لطاغوتهم في جميع شؤونهم، وكانوا هم أهل السلطة والصولة، والاقتدار والثروة، وأهل اللسان الراقين في الفصاحة والبلاغة، فاحتجّ القرآن ونبيّه بجلالة مقامه بحيث يعجزون عن معارضته والاتيان بمثله.


 


وكم تحدّاهم(2) في ذلك بطلب المعارضة تعجيزاً، فلمّا عجزوا تنازل في تعجيزهم إلى "عشرة سور من مثله"(3) فلمّا عجزوا تنازل معهم إلى الإتيان (بسورة مثله)(4) وقد كان لهم بالمعارضة أحسن مندوحة تقوم لهم بها الحجّة، وتظهر الغلبة، ويخلد لهم الذكر، ويسمو الشرف، ويستريحون إليها من مقاساة أهوال الحروب التي طحنتهم، ومعاناة(5)هوان الأسر، وصَغار المغلوبية، وذلّة الانحطاط من جبروتهم، والتنازل عن ضلالهم وعوائدهم.


 


 


لكنّهم يعرفون ـ لا كغيرهم ـ أنّ الذي يُفتخر به ويُتنافس فيه من ارتفاع قدر الكلام وبلاغته إنّما يكون بمقدار مطابقته لمقتضى الحال الذي يُتكلّم فيه وجريانه على الوجوه اللازمة في ذلك، لا بمجرّد


 


 


____________


 


(1) النجم 53: 5.


  


(2) تحدّاهم: نازعهم.


 


(3) اقتباس من سورة هود 11: 13.


 


(4) البقرة 2: 23.


 


(5) المعاناة: الملابسة والمباشرة.


 


 


تزويق(1) الألفاظ وتحوير العبارات; وقد وجدوا القرآن الكريم يعطي كل مقام حقّه من المطابقة لحقيقته ومناسباتها، بحيث لم يجدوا في ذلك شبهة غميزة(2). مع خوضه حقّ الخوض في كل حقيقة يحوم حولها العارف الإلهي، والمصلح الديني، والمصلح السياسي، والمصلح المدني الاجتماعي، والمصلح التأريخي، والنبي المتعرّض للغيب، فيوفّي كل حقيقة حقّها على النحو الباهر، مع الاستقامة في المسلك، والاطّراد في المجرى، والانسجام في البيان.


 


 


وعلموا أنّه لا يجدي في المعارضة خيالياتهم في الغزل والنسيب والمدح والحماسة، بل لا بُدّ أن يخوضوا في مواضيع القرآن الكريم من الحقائق خوضاً ابتدائياً لا اتّباعاً تقليديّاً.


 


 


فأقعدهم عرفانهم ذلك مقعد العجز، وأوقفهم موقف الحيرة، فاحتملوا ما احتملوا من البلاء، إذ لم يجدوا لما دعاهم إليه من النصفة سبيلاً، فبان منهم العجز عن ذلك، وظهر عند القاصي والداني إعجاز القرآن وأنّه خارج عن طوق البشر.


 


 


ولو كان من ذلك شيء يرضونه أو يتوهّمون لياقته للحجّة ورواجه في سوق المحاكمة لرفعوه علماً للاحتجاج، وأنطقوه مستصرخاً للانتصار، وصارخاً في الأقطار بالظليمة، وداعياً إلى المحاكمة، وللهجت به الأندية(3)، وعجّت بنشيده أسواق العرب، وسارت به الركبان، ودوّنت به الدفاتر، وتعنونت باسمه الحروب والمنافرات، ولكثرة الأعوان والمحامون(4) والمدّعون، ولضجّت به اليهود والنصارى


 


____________


 


(1) التزويق: التحسين.


 


(2) الغميزة: العيب.


 


(3) الأندية: جمع النادي، بمعنى المجلس.


 


 


(4) المحامي: هو الوكيل في المحاكمة.


 


في جزيرة العرب وفلسطين وسوريا، فكان لهم أشهي حديث يؤثر، وأجلّ سيرة تسجّل، ولكان أقرّ لعيونهم في التاريخ من أحاديث شمشون(1)ومجلة استير(2) ورؤيا يوحنّا(3)، وها أنت وكلّ أحد لا تحسّ لذلك همساً ولا تسمع له حسيساً.


 


 
فإن توهّم "حسن الإيجاز" أن قد جاءوا بمثله واختفى علينا فقد أخطأ وجدانه، كيف وأنّهم أهل السلطة والكثرة القاهرة وحاجتهم إلى ذلك أشدّ من حاجتهم إلى حفظ شعر امرىء القيس وغيره من الشعراء؟! فكيف يأتون بمثل هذا القرآن ويضيّعونه ولم يضيّعوا المعلّقات السبع التي علّقوها بالكعبة إعجاباً بها، فلمّا جاء القرآن أنزلوها استحقاراً في جنب جلالته كما حفظ ذلك لنا التاريخ؟!


 


 


وحينئذ فاعتراف أهل اللسان بإعجاز القرآن حسبما دلّ عليه الوجدان أوضح دليل على إعجازه، ومن لم يكن من أهل اللسان فهو عاجز عن إدراك ذلك فلا ينبغي له الخوض فيه، بل يلزم عليه أن يتّبع أهل اللسان ولا يبقى هالكاً في ورطة الجهل، أعاذنا الله منه ومن الجهل بأنّا جاهلون والله الهادي إلى سواء السبيل.


 


 


ومن ظرائف الشواهد(4) أنّ بعض المولّدين والدخلاء في اللغة العربية، في أواخر القرن الثاني وما بعده من نزول القرآن، أرادوا أن يعرفوا علم القرآن ويتعلّموا منه مجاري البلاغة وأسرار اللغة العربية


 


 


____________


 


 


(1) هو الإصحاح (الفضل) الرابع عشر من سفر القضاة من العهد القديم الذي ينسبه اليهود والنصارى إلى الإلهام.


 


(2) استير: أحد أسفار العهد القديم، استعير له اسم المجلّة مشاربهةً.


 


 


(3) هو من جهة الكتب الإلهامية عند النصارى.


 


 


(4) أي من الشواهد على ما قلنا: "ومن لم يكن من أهل اللسان فهو عاجز...".


 


 


وفذلكاتها في الكلام، فوقف بهم التعلّم في بعض الموارد على عقبات الجهل والشك، فجاء بعض النصارى، كهاشم المتعرّب(1) وغيره، فجعلوا تلك الشكوك والجهالات انتقادات على القرآن فزادوا على الجهل جهلاً آخر.


 


 


فجاء كتاب "الهدى" واوضح ببيانه في تلك الموارد أنّها في المقام السامي من فذلكات البلاغة وبراعة البيان ومزايا العربية، فانظر أقلاً إلى الجزء الأول من كتاب "الهدى" ص 321 إلى آخره لكي تعرف ماذا يصنع الجهل والتعصب، إذا عرفت ذلك فلنشرح المقصود بعون الله في ضمن اُمور:


 


 


____________


 


 


(1) اسمه هاشم العربي، أطلق عليه"المتعرّب" لعدم اطّلاعه على القواعد العربية


الأمر الأول


 


لا شبهة أنّ القرآن ورد معجزاً، والمسلمون وغيرهم من أهل اللسان ـ من الأعصار السابقة إلى العصر الحاضر ـ يعرفون إعجازه، والقرآن صريح في ذلك. وإن وقع الخلاف من بعض في سبب الإعجاز فإنّه لا يضرّ بجهة أصلاً، لبداهة عجز أهل اللسان عن الإتيان بمثله ولو كان العجز بأيّ سبب من الأسباب، وهذا المقدار دليل واضح على خروجه عن طوق البشر.


 


على أنّ إبطال أيّة ديانة لا بُدّ وأن يكون بإبطال ما هو مسلّم بين جميع المتديّنين بها، لا بما ذهب إليه(1) بعض من المنسوبين إلى ذلك المذهب، وإلاّلبطلت الأديان بأجمعها، وذلك لاختلاف علمائهم اُصولاً وفروعاً. ألاترى انتقاد الفرقة الپرتستانية على علمائهم السابقين عملاً وقولاً واعتقاداً؟! وهل يجعل ذلك عاقل ردّاً على أصل المذهب؟! كلاّ.


 


فما في "حسن الإيجاز" من أنّ القرآن لم يدّع عجز البشر والناس عن مثله إلاّ على سبيل المبالغة، غير جار على طريقة الفهم لبداهة أنّ القرآن لم يتعرّض للإعجاز إلاّ في مقام الحجّة والاستدلال وإثبات أنّه كلام الله و وحي منزل على نبيّه المرسل صلوات الله وسلامه عليه وآله، ومن ثم صار عجز الشعراء والبلغاء ـ مع كثرتهم في تلك الأعصار ـ دليلاً قاطعاً على إعجازه.


 ____________


 


(1) إشارة إلى ما نسب إلى بعض المسلمين من إنكاره عجزّ الناس عن الإتيان بمثل بلاغة القرآن
الأمر الثاني


 


إنْ أنكر بعضُ من يلتصق باسم الإسلام في هذا العصر دلالةَ الإعجاز على أنّ القرآن وحي الله وكلامه، كبعض البابية، فإنّ إنكاره لا يكون حجّة على المسلمين كما تشبّث به "حسن الإيجاز"، لأنّ من البديهي أنّ تلك الفرقة ليست من أهل الديانة الإسلامية، إذ أنّ كتب علي محمد ـ الذي هو مؤسّس مذهبهم ـ مشحونة بالمتناقضات وادّعاء النبوّة والإلوهية وغير ذلك. ألا ترى أنّ البابية اتّبعوا هذا الرجل في الاُمور الهائلة مع أنّهم أخفوا كتبه لشناعتها وسقوطها، فهل يحتج بأقوالهم إلاّ من هو مثلهم في السقوط؟!


 


على أنّ دلالة الإعجاز على الوحي إنّما هو من الاُمور العقلية التي يستقل بإدراكها العقل فلا يضّر فيه جهل فلان وإنكار فلان.


 


فليراجع كل عاقل وجدانه ويلاحظ أنّ عجز البشر عن الإتيان بمثل ماأتى به المدّعي للنبوة هل يكون دليلاً على صدق المدّعي كما في سائر النبوّات أم لا؟ فليت شعري ما الوجه لحسن الإيجاز في قياس القرآن بكتاب إقليدس في الهندسة بمشابهة أنّه لم يأت أحد بمثله ممّن قبله ولا ممّن بعده؟! مع أنّ عدم الإتيان لا يستلزم العجز عنه، لو سلّم أنّه لم يأت أحد بمثله سلّمنا، ولكن الذي يقبح ـ عند العقل ـ على الله تعالى إنّما هو إظهار المعجز على يد الكاذب، فلا يمتنع إظهاره على من لم يدّع النبوّة كذباً، والقرآن إنّما ورد في مقام والبرهان على النبوّة فيم يرتبط هذا المقام بغيره؟


الأمر الثالث


 


لا كلام ولا إشكال في أنّ المعجزة لا بُدّ وأنّ تكون ظاهرة لكل أحد من العلماء والجهلاء، مانعة لاحتمال الخداع والتدليس.


 


والقرآن كذلك رغماً على إنكار "حسن الإيجاز"، غاية الأمر أنّه بالنسبة إلى أهل اللسان بإدراكهم وبلا واسطة، وبالنسبة إلى غيرهم بإخبارهم القاطع وإذعانهم المعروف، وهو كسائر المعجزات المشاهدة للحاضرين المعدودين بلا واسطة، والمعلومة لغيرهم بنقلهم.


 


ويفوق القرآن على سائر المعجزات بأنّ إعجازه ظاهر لجميع من يعرف البلاغة في جميع الأديان، ولا يختص ذلك بزمان دون زمان، والمشاهدة لسائر المعجزات السابقة مختصة بعدد قليل من الحاضرين في ذلك الزمان


   


الامر الرابع


قال صاحب "حسن الإيجاز": "إنّه يمكن عقلاً أن يأتي إنسان بأفصح العبارات وأبلغها وأحسنها نظماً وهي تحكم بأنّ الله شرّير، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، فهل يُصدِّق قائلها إذا اتّخذ ذلك دليلاً على أنّ عباراته من وحي الله؟! وإلاّفما الدليل على أنّ ذلك محال؟!


فإن قيل: إنّ نسـبة الشرّ إليه تعالى دليل على بطلان أنّها وحي الله.


قلنا: "إنّ كثيرين من أهل الأديان نسبوا أمثال ذلك إليه تعالى" إنتهى محل الحاجة.


أقول: لا لوم على هذا الرجل إذا لم يعرف معنى البلاغة فتوهّم لنفسه أنّها عبارة عن تزويق الألفاظ وإن كان معناها فاسداً قبيحاً في مورده، ومن تقحّم مثل تقحّمه جدير بأن لا يعرف أنّ البلاغة التي بها يعلو قدر الكلام ويتفاخر إنّما هي مطابقته لمقتضى الحال كما ذكرناه في التمهيد. ألا وإنّ العبارات التي تحكم بأنّ الله شرّير لتخسأ وتذلّ عن أن يدنّس بها اسم البلاغة ومعناها.


ألا ترى أنّ كاتب التوراة الرائجة لمّا لم تكن عنده حقيقة القصّة في أكل آدم وحوّاء من الشجرة التي نهاهماالله عنها، وأراد أن يصوّرها كشاعر خيالي، فإنّه مهما تأنّق في تزويق عباراتها وتنميق(1) محاوراتها جاء بها شنعاء شوهاء، تشوّهت ألفاظها بتشويه معانيها، فكانت من الكلام الساقط الذي تشمئزّ منه النفوس، اُنظر في الفصل


____________


(1) التنميق: التزيين.


 


 


 


الثالث من التكوين.


نعم، لو ذكرت (1) في مثل كليلة و دمنة مثالاً خيالياً لملك خدوع جائر ورعيّة مغفّلين وناصح فاهم غيور لكان لها مقام في الخياليات.


وهذا كاتب إنجيل لوقا(2) لمّا كتب من مخيّلته توبة المجدلية على يد المسيح تحذلق(3) في تحسينها جهد خياله، ولكنّه جاء بها شوهاء سمجت ألفاظها بسماجة معانيها حيث اجترأ بها على مقام المسيح(4)ودنّس بها قدس التوبة والتائب. اُنظر في سابع لوقا / عدد 37 إلى 49.


وهذا كاتب إنجيل يوحنّا لمّا أراد أن يصوّر محبّة المسيح لتلميذه يوحنّا بن زبدى ذكر لذلك حالة يجلّ(5) عن شناعتها سائر المؤمنين فضلاً عن رسول الله وتلميذه فتلوّثت ألفاظها بقبح معانيها. اُنظر في ثالث عشر يوحنّا/ عدد 22 إلى 26.


ولو ذكرت هاتان القصّتان لاُناس مجهولين في رومان يمثّل غرام(6)فلسطين(7) لكان لها حظّ في خياليات الغرام ورقّة الغزل، وقد


____________


(1) وذلك لأنّه نسب الكذب إلى الله تعالى والصدق والنصيحة للحيّة في أكل آدم وحوّاء من شجرة معرفة الخير والشر، فالله تبارك وتعالى ـ بزعم كاتب التوراة الرائجة ـ ملك خدوع جائر، والحية وطني فاهم غيور، والرعية المغفّلين كناية عن آدم وحوّاء.


(2) ثالث أناجيل الأربعة المنسوبة إلى المسيح عليه السلام.


(3) تحذلق: أظهر.


(4) فإنّه نسب إلى المسيح عليه السلام ـ وحاشاه ـ ما يناسب الفجّار.


(5) فإنّه ذكر ماهو المناسب للعاشق والمعشوق دون النبي وتلميذه.


(6) الغرام: العشق.


(7) ذكر فلسطين إشارة إلى وطن المسيح عليه السلام.


 


تركنا من نحو ذلك العهدين أمثالاً كثيرة.


وها فانظر إلى كلام القرآن الكريم في جميع موارده وفنونه المختلفة، وانظر إلى براعته فيها وبلاغته المعجزة بمطابقته لمقتضى الحال.


وإنّ صدور هذه المقامات الثلاثة وأمثالها الكثيرة من كتبة العهدين الرائجين لأدلّ دليل على كذب اُولئك الكتبة.


وإنّ استنادنا في صدق الرسول إلى القرآن لهو من جهات شتّى، منها:


الجهة العامّة لمعاصريه من العرب، وهي براعة كلامه في مطابقة مقتضى حقيقة الحال التي يتكّم بها في فنونه الراقية، مع تحدّيه لهم بمعارضته وفصل القضاء لهم بذلك، وعجزهم عن معارضة قليل منه بمثل كرامته، مع أنّهم من أهل اللسان والبيان بحيث يكشف ذلك عن كونه عن مصدر إلهيّ وعناية خاصّة بالرسول. وثانياً ما هو المحصّل المعقول من جوابه في قوله "فإن قيل. قلنا" فهل تراه يزعم أنّه إذا كان كثير من أهل الأديان يزعمون أنّ الله شرّير ـ تعالى شأنه ـ فإنّه يدلّ على أنّ ذلك حقيقة راهنة(1) تدلّ على صدق المتنبىء بهذا الزعم، ولا تدل على بطلان زعمه بأنّه وحي إلهي؟! أو تقول: إنّه قال ذلك ولم يدر ماذا قال ولذا سمّى كتابه "حسن الإيجاز"؟!


وثالثاً لا شبهة في أن مدّعي النبوّة لا بُدّ وأن لا يكون فيه الموانع التي يحكم العقل الفطري بامتناع وجودها في النبي:


منها كونه مكذّباً في دعواه من نبى مسلَّم النبوّة ولو كان التكذيب بعنوان عام ينطبق عليه.


____________


(1) راهنة: أي ثابتة.


 


 


 


 


 


ومنها كونه فاعل اُمور قبيحة من الكذب وشرب الخمر وأمثالهما.


ومنها أن يأتي في دعواه بما هو مخالف للعقل القطعي، كالدعوة إلى الشرك، وإلى تعدّد الآلهة وتعدّد الأرباب، وإلى عبادة غير الله.


ومنها تناقض تعليماته أو أقواله.


فيتفرّع على هذا أنّ القول بأنّ الله شرّير ـ تعالى عن ذلك ـ دليل على عدم النبوّة وعلى كون المدّعي كاذباً في دعواه.


ولا يقـاس ذلك بما ذكره من أنّ كثيرين من أهل الأديان نسبوا أمثال ذلك إليه تعالى يكشف عن خطئهم في رأيهم، وهو لا يكشف عن بطلان أصل الدين ـ كما ذكرنا في الأمر الأول ـ بخلاف إسناد من يدّعي النبوّة مثله إليه تعالى فإنّه يكشف عن خطئه في عقيدته المنافي لنبوّته كما هو واضح.


ولاجل ذلك لو لم تعلمنا الشريعة المقدّسة الإسلامية نبوّة موسى وعيسى عليهما السلام، ونزول الوحي والكتاب لهم، لكُنّا من المنكرين لذلك أشد الإنكار، لما نجد في نبوّتهما، وفي كون العهدين المسمّيين بالكتاب المقّدس، اللذين يزعمهما النصارى كتب وحي وإلهام، من الموانع المذكورة في تلك الكتب البالغة فوق حدّ الإحصاء، ولا بأس أن نشير إلى بعض تذكرة للعلماء منهم وتبصرة لجهلائهم، فنقول:


الموانع من نبوّة موسى عليه السلام ـ على ما في العهدين ـ كثيرة منها ما وجدناه في الفصل العاشر من يوحنّا ما يقدح بعمومه في


 


 


 


 


رسالته ورعايته للاُمة، قال في/ عدد 7: "الحق أقول لكم، إنّي أنا باب الخراف (8) جميع الذين أتوا قبلي هم سرّاق ولصوص".


ومنها ما وجدناه في تعليم التوراة عن قول الله عز وجل في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر الخروج / عدد 13: "ولا تذكروا اسم آلهة اُخرى، ولا يسمع من فمك".


وفي الرابع من سفر التثنية/ عدد 35: "لتعلم أنّ الربّ هو الإله ليس آخر سواه".


ووجدنا أيضاً في التوراة عن قول الله عزّ وجلّ في رابع الخروج/ عدد 16: "إنّ موسى يكون إلهاً لهارون".


وفي سابع الخروج / عدد 1: "أنا جعلتك إلهاً لفرعون".


ومنها ما في التوراة أيضاً، في رابع الخروج / عدد 10 إلى 14، أنّ موسى استعفى عن الرسالة بخطاب مع الله بغير أدب ولم يثق بوعد الله حتى حمي غضب الرب عليه.


وفي خامس الخروج / عدد 22: "وقال لله: لماذا أسأت إلى هذا الشعب؟ لماذا أرسلتني؟!".


وفي الإصحاح الحادي عشر من سفر العدد/ عدد 11: "لماذا أسأت إلى عبدك؟!".


وفي الثاني والثلاثين من الخروج / عدد 32، قال في شأن عبدة العجل: "والآن إنْ غفرت لهم وإلاّ فامحني من كتابك الذي كتبت".


وفي الحادي عشر من العدد / عدد 22 و 23، أنّه شكّ في قدرة الله على إشباع بني إسرائيل من اللحم، وخاطب الله بما يشبه الإنكار لذلك.


 


 


 


 


وذكرت التوراة أنّ موسى وهارون لم يؤمنا بالله كما في العشرين من العدد / 12.


وعصيا قوله، كما في السابع والعشرين / عدد14.


وخاناه، كما في الثاني والثلاثين من سفر التثنية / عدد 51.


والمانع من نبوّة عيسى عليه السلام ـ على ما في العهدين ـ اُمور:


منها التناقض في الكلام، فقد نقل عن المسيح أنّه قال: "إنْ كنت أشهد لنفسي فشاهدتي ليست حقّاً" كما في خامس يوحنّا / عدد 31.


ونقل عنه أيضاً أنّه قال: "إنْ كنت أشهد لنفسي فشهادتي حقّ" كما في ثامن يوحنّا / 14.


ومن التناقض في الكلام أيضاً ما في تاسع عشر متّى(1) لمّا قال له بعض الناس: "أيّها المعلّم الصالح" أنكر عليه هذا القول ـ عدد 17 ـ وقال: "لماذا تدعونني صالحاً؟! ليس أحد صالحاً إلاّواحد هو الله" ومثله في عاشر مرقس(2) / عدد 18. والثامن عشر من لوقا/ عدد19.


وهذا مناقض لما يحكى عن قوله: "الإنسان الصالح" كما في ثاني عشر متّى / عدد 35; وسادس لوقا/ عدد 45.وقوله: "أنا هو الراعي الصالح. أمّا أنا فإنّي الراعي الصالح" كما في عاشر يوحنّا عدد 11 و 14.


ومن هذا القبيل أيضاً ما في ثاني عشر متّى / عدد 30: "مَن


____________


(1) هو أول الأناجيل الأربعة.


(2) هو ثاني الأناجيل الأربعة.


 


 


 


ليس معي فهو عليَّ. ومن يجمع معي فهو يفرّق" وكذا في حادي عشر لوقا / عدد23.


وهذا مناقض(1) لما يحكى عن قوله "من ليس علينا فهو معنا" كما في تاسع مرقس / عدد 40; وتاسع لوقا/ عدد 50.


ومنها ما ذكرت الأناجيل من أنّ المسيح ـ وحاشاه ـ شرّيب خمر، أي كثير الشرب لها، كما في سابع لوقا/ عدد 32 إلى 35; وحادي عشر متّى / عدد 17 إلى 20.


وأنّه قال في الخمر قول المودّع المولَع بها المتلهّف عليها، كما في السادس والعشرين من متّى / عدد 27 و 29; ورابع عشر مرقس / عدد 23 و 25; والثاني والعشرين من لوقا/ عدد 17 و 18.


وأنّه حضر مجلس العرس المنعقد للسكر وإذ نفد خمرهم عمل لهم بمعجزة ستّة أجران من الخمر، كما في ثاني يوحنّا/ عدد 1 إلى 11.


ومنها ما نسبت الأناجيل إلى قدس المسيح ـ وحاشاه ـ من قوله ما يرجع إلى تعدّد الآلهة، كما في عاشر يوحنّا / عدد 33 إلى 37.


وكذا تعدّد الأرباب، كما في الثاني والعشرين من متّى/ عدد 41 إلى 46; وثاني عشر مرقس / عدد 35 إلى 38; والعشرين من لوقا / عدد 41 إلى 45.


وذكرنا عن التوراة ما يدلّ على التوحيد الربّ، بل جاء في ثاني عشر مرقس / عدد 29: "الربّ إلهانا ربّ واحد".


ولا يخفى أنّ الأناجيل الثلاثة المذكورة تذكر في هذا المقام أنّ المسيح أنكر قولهم أن المسيح ابن داود. وأحتجّ لذلك بأنّ داود قال


____________


(1) بيان المناقضة: أنّ على المسيح ولا معه محكوم بحكم من عليه بمقتضى الفقرة الاُولى، وبحكم مَن معه بمقتضى الثانية.


 


 


في المزامير عن الوحي: "قال الربّ لربّي" وكذا في ثاني أعمال الرسل / عدد 34; والمراد من ذلك أوّل المزمور العاشر بعد المائة، مع أنّ الموجود فيه الأصل العبراني حتى إلى الآن: "نؤم(1) يهوه لادناي" وترجمته الحرفية: "أوحى الله لسيّدي" وهذا خال عن ضلال الكفر وتعدّد الأرباب..


فليت شعري من اين جاء هذا التحريف؟! هل جاء من المسيح ـ وحاشاه ـ؟! أو من كتبه الأناجيل والأعمال؟! أم يقول النصارى: جاء من تحريف اليهود للمزامير؟!


لا، لا، فإنّ التوحيد الحقيقي يشهد بأنّ التحريف وضلال الكفر وسخافة الاحتجاج المناقض لافتخار العهد الجديد بكون المسيح ابن داود، كله جاء من كتبة الأناجيل والأعمال، كما أنّ النصارى الذين ترجموا المزامير حرّفوا تراجمهم تأسّياً بتحريف الأناجيل، فانظر واعجب.


والموانع من كون العهدين كتب وحي وإلهام اُمور كثيرة:


منها ما وجدناه فيها من إسناد القبائح والشرور إلى الله تبارك وتعالى وإلى الانبياء عليهم السلام الممتنع ذلك في حقهم بحكم العقل القطعي.


فمنها ما في ثالث التكوين من خوف الله تبارك وتعالى من آدم أن يأكل من شجرة الحياة لأنّه صار مثل الله في معرفة الخير والشر/ عدد 22.


ومنها مصارعة يعقوب مع الله تبارك وتعالى، حتى أنّه لم


____________


(1) أو: نأم.


 


 


 


يقدر على يعقوب، فطلب منه أن يطلقه فلم يطلقه حتى باركه(1)، اُنظر في الثاني والثلاثين من التكوين / عدد 24 إلى 31.


ومنها ما في العشرين من أشعيا، من أنّ الله أمر نبيّه أشعيا أن يمشي عرياناً وحافياً بين الناس ثلاث سنين; عدد 1 إلى 5.


ومنها ما في الرابع من حزقيال، من أنّ الله أمر نبيّه حزقيال أن يأكل كعكاً من خبز الشعير الذي يخبزه أمام عيون بني إسرائيل على الخرء الذي يخرج عن الإنسان; عدد 12 إلى 15.


ومنها ما في أوّل هوشع، من أنّ الله أمر نبيّه هوشع أن يأخذ لنفسه امرأة زنا وأولاد زنا.


ومنها ما في الثامن عشر من التكوين / عدد 8; والتاسع عشر/ عدد 3، من أكل الله عزّ وجلّ من طعام إبراهيم ولوط.


ومنها ما في تاسع التكوين / عدد 21، فشرب نوح من الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه.


ومنها ما في سابع لوقا/ عدد 33: "لأنّه جاء يوحنّا المعمدان(2) لا يأكل خبزاً ولا يشرب خمراً فتقولون به شيطان (34) جاء ابن الإنسان(3)يأكل ويشرب فتقولون هو ذا إنسان أكول وشرّيب خمر" ونحوه في حادي عشر متّى / عدد 19.


ومن جملة الموانع ما وجدناه فيهما من التناقضات في النقل والحكايات:


فمنها ما ورد في السابع والعشرين من متّى / عدد 44 في


____________


(1) اي أعطاه البركة، وهي النبوّة.


(2) يوحنّا المعمدان هو الذي كان يغسّل الناس تطهيراً لهم قبل المسيح.


(3) هو نفس المسيح.


 


 


 


 


السارقَين المصلوبين مع عيسى عليه السلام من أنّهما كانا يعيّرانه.


وهو مناقض لما ورد في الثالث والعشرين من لوقا/ عدد 39 إلى 44 من أنّ أحدهما عيّره وجدّف(1) عليه فلامه الآخر وبرّأ المسيح ومجّده.


ومنها ما ورد في ثالث يوحنّا / عدد 13: "وليس أحد صعد إلى السماء إلاّالذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء" وهذا يناقض صعود إيليا اليها، كما في ثاني الملوك الثاني / عدد 11.


وفي هذا المقدار لطالب الحقّ كفاية، فإنّ الإكثار يخرج عن حدّ البحث إلى سوء القالة.


____________


(1) أي تكلّم معه بكلمة الكفر.


الأمر الخامس


في إبطال ما توهّمه دليلاً على عدم بلاغة القرآن، وهو على قسمين:


قسم ليس فيه ما يوهم ذلك بل ادّعائه دليل على أنّ المدعّي لا يدري بما يقول أو لا يبالي بما يقول.


وقسم ربّما يوهم ذلك، إلاّأنّه يكشف عن عدم تدرّب المتوهّم في فهم سوق الكلام، وعن عدم كونه من أهل اللسان.


أما القسم الأوّل: فمنه ما ادّعى من التنافر في المفرد والمركّب في قوله تعالى: (الحاقّة. ما الحاقّة)(1) وفي قوله تعالى: (أنفقوا ممّا رزقكم الله)(2) وفي قوله تعالى: (ألم أعهد إليكم)(3).


وليت شعري لماذا اقتصر هذا المدعي على هذا المقدار؟! بل إنّ أكثر الكلمات العربية تثقل على لسان غير العربي ـ كالزنجي والاُوربى ونحوهما ـ ممّن لا يحسن النطق بالثاء الجيم والحاء والذال والصاد والضاد والطاء والظاء والعين والغين والقاف والكاف والهاء، فكيف إذا اجتمع في الكلمة من هذه الحروف حرفان أو ثلاثة؟! فكان على هذا المدّعي أن يقول: إنّ اللغة العربية والقرآن جلّها متنافرة على نوع الزنجي والاُروبي ونحوهما فتقرّ عينه بهذه الدعوى!


ومنه ما ادعى من الغرابة في لفظة "الكوثر" مع غفلته عن


____________


(1) الحاقّة 69: 1 و 2.


(2) يس 36: 47.


(3) يس 36: 60.


 


 


 


 


أنّه بمعناه اللغوي لم يكن مجهولاً لمعاصري النبي صلى الله عليه وآله وإنّما فسّره النبي صلى الله عليه وآله باعتبار المراد من المعنى الكلي، وأين هذا من الغرابة؟!


ومنه ما توهّم من الكراهة في السمع في لفظة "ضيزى"(1) ; ولايخفى أنّ من نظر إلى كتب اللغة وخصوص كتاب "لسان العرب" يعرف كثرة استعمال العرب للفظة "ضيزى" وتصاريف مادّتها في الشعر والنثر، وأنّ لهم فيها بحسب كثرة استعمالها لغات كثيرة. ومن ذا الذي قال من العرب: إنّها كريهة؟! ومن ذا الذي عابها منهم؟! ولئن كانت ـ أخيراً ـ قليلة الاستعمال عند المولّدين والدخلاء فإنّ ذلك لا ينقص من مجدها ومألوفيتها عند العرب، وأنّ للمولّدين في التحكّم في الألفاظ العربية شؤوناً تتقلّب بها أزمانهم واُلفتهم، وإنّما يضرّ ذلك بتعرّبهم لا بالعربية! وعناية القرآن إنّما هي بسداد لغةّ العرب لا بتحكّمات المولّدين والدخلاء.


ومنه اما توهّم من مخالفة القياس في قوله تعالى: (والله أنبتكم من الأرض نباتاً)(2) قال: "القياس إنباتاً" لتوهّمه أنّ المراد بالنبات المصدر; وغفلته عن أنّ المراد منه اسم العين لمساواة أحوال الإنسان لأحوال النبات في نموّه وأطواره في البهجة والذبول، وفي هذا التعبير من الفائدة التي يقتضيها الحال ما لا يكون بلفظ الإنبات.


ومنه ما توهّم ـ ص 15 ـ في قوله تعالى: (في جيدها حبل من مسد)(3) من أنّ التبديل بلفظ "سلب" أوْلى، قال: "فإنّ المسد


____________


(1) النجم 53: 22.


(2) نوح 71: 17.


(3) اللهب 111: 5.


 


 


 


 


ليف المقل، والسلب أيضاً كذلك" مع جهله بأنّ المسد ليس هو ليف المقل، بل هو مطلق المفتول بشدّة، أو الليف المفتول بشدّة سواء كان من المقل أو النخل أو غيرهما.


ومنه ما توهّم من الركاكة ـ ص 21 ـ في قوله تعالى: (وليس الذكر كالاُنثى)(1) قال: "وهذا تحصيل حاصل، فليس له من فائدة" مع غفلته عن أنّ اللام في الآية للعهد. والمراد أنّ الذكر المعهود بيني وبينك ليكون ـ بحسب النذر ـ نذيراً محرّراً لخدمة بيت المقدس ـ عى رسوم بني إسرائيل ـ ليس كالاُنثى التي لا تقوم بوظائف النذير وخدمة البيت المقدّس كما أرادت اُمّها أن تتقرب به إلى الله.


ومنه ما توهّم من الركاكة أيضاً ـ ص 21 ـ في قوله تعالى: (رب إنّي وضعتها اُنثى)(2) بتوهّم أنّ الضمير عائد إلى الاُنثى، مع الغفلة عن رجوعه إلى كلمة (ما) في قوله تعالى: (ما في بطني) وإنّما اُنّث لمطابقة الحال.


ومن كبائر الوهم معارضته لقوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم)(3) بقوله: الحمد للرحمن. ربّ الأكوان" إذ لم يشعر بأنّ لفظة "الله" علم للذات المقدّسة الجامعة لصفات الجمال والجلال، وأنّ الله بيّن أنّه ربّ العوالم بأسرها، دلالة على تعدّدها كما هي متعدّدة في مراتبها ترتّباً ومقارنة فضلاً عن تعدّدها من حيث المادّية والروحية، ولا يصلح لفظ الأكوان لشيء من ذلك.


____________


(1) آل عمران 3: 36.


(2) آل عمران 3: 36.


(3) الفاتحة 1: 2 و 3.


 


 


وكذا معارضته لقوله تعالى: (مالك يوم الدين. إيّاك نعبد وإيّاك نستعين)(1) بقوله: "الملك الديّان. لك العبادة وبك المستعان" فإنّه غفل عن أنّه ليس المقصود في البيان مجّرد أنّ الله ملك ديّان، بل المقصود ذكر يوم الدين وتثبيت المعرفة به، والرهبة من نكاله والرغبة في جزائه، وبيان عظمة ملكوت الله وإحاطة سلطانه القاهر بشؤون يوم الدين.


كما أنّه ليس المقصود مجرّد بيان أنّ له العبادة وبه المستعان، بل المقصود تلقين المؤمن بأن يخضع لله بالعمل، والاعتراف بالطاعة لله دون غيره، ويستكين له بالاستعانة والالتجاء اليه تعالى وحده.


وكذا معارضته لقوله تعالى: (إهدنا الصراط المستقيم)(2) بقوله: "إهدنا صراط الإيمان" مع جهله بأنّه ليس المقصود هو مجرّد الهداية إلى الإيمان، بل الصراط الممجّد باستقامته في الإيمان والعلم، والأخلاق، والعبادات، والمعاملات، والسياسة، والرئاسة، والكلام، والكتابة، والتأليف، وجميع لوازم الإنسان في المدنية والاجتماع وما يقوم بنعمته في حياته الاُولى ومعاده.


وكذا قوله: " إنّ ما بعد الصـراط المستقيم حشو وتحصيل حاصل " وقد غفل عن أنّ السلوك في هذا الصراط الفاضل هو روح الحياة الحقيقية وجامع السعادة بالنعم، وشأن الحكيم أن يرغّب إليه وينشّط طالبيه بإيضاح مجده وقبح ضدّه، فأوضح القرآن مجده ومجّد سالكيه بالاستقامة، وشرّف اختصاصه بالسعداء بالنعمة دون الناكبين عنه المتلوّثين بخساسة التعرّض لغضب الله والمتدنّسين


____________


(1) الفاتحة 1: 4 و 5.


(2) الفاتحة 1: 6.


 


 


 


 


برجاسة الضلال، وهذه المطالب العالية من أوّل ما يلزم بيانه على الهادي الحكيم.


وهذا بعض ما أمكن بيانه من فوائد الآيات في هذا المختصر.


هذا مع أنّ المعارض بمعارضته الرديئة لم يهتد إلاّ باتّباع اُسلوب القرآن وتقليده، وقد أشرنا في التمهيد أن المعارضة لايكون لها أدنى حظّ إلاّ بالاُسلوب الابتدائي، وممّا ذكرنا تعرف الشطط والغرور في دعوى المعارضة ـ ص 15 ـ قولهم: "إنّا أعطيناك الجواهر. فصلّ لربّك وجاهر. ولا تعتمد قول ساحر" ولا عجب من عجبه بهذا الكلام!


وكذا عجبه بقول بعض الشيوخ "يا أيّها الذي غوى. وهام في ليل الهوى. ألّفت ما وهى. فرأيته معجز القوى. فسر في صبح الهدى. وانهج ما استوى. معجزة الله ترى. كنشر الميّت وبرء ذي العمى. ودينه الحقّ والسوى. ونفع الأولياء والعدى".


وكيف ألومه، وهذا الكلام يساعده على الكفر والجرأة على قدس القرآن الكريم؟! ولا أقول له، بل أقول لغيره: إنّ قوله "وهام في ليل الهوى" غلط في المعنى الذي يريده، فإنّ الهيام إنّما يناسب هوى العشق، كما نظم الشعراء هذه الفقرة كثيراً، وسرقها المتكلّم لغرضه بدون تعقّل، فإنّ هوى الضلال كما يزعم إنّما يناسبه أن يقول "تاه".


وأمّا قوله: " ألّفت ما وهي" فإنّي اُحكّم فيه كلّ مستشرق عالم حرّ وأسأله: هل القرآن الكريم واه في معارفه وآدابه وأخلاقه واجتماعه وسياسته واُسلوبه وبلاغته في الكلام العربي؟!


 


 


وليت شعري ما معنى قوله: "معجز القوى" وهل نقول إلاّ أنّ القرآن أعجز البشر عن الإتيان بمثله، فما هو ربط القوى التي منها الباطشة والسامعة واللامسة والشامّة والهاضمة والجاذبة؟! ولئن كان هذا اللفظ صحيحاً فالغلط ما هو؟!


وما هو المعنى في تقديم المفعول في قوله: "معجزة الله ترى" فهل من يسير في صبح الهدى تنحصر رؤيته بمعجزة الله؟! فما تقديم المفعول هنا إلاّ من سخيف التكلّم بالعربية بل إنّ مراده لا يصحّ إلاّ بتقديم "ترى" التي يلزم جزمها بحسب مراده فإبقائها على الرفع غلط إلاّ يقول: إنّ جملتها لغو لا يرتبط بالكلام!


وقوله "كنشر الميّت وبرء ذي العمى" يريد به معجزات المسيح التي تذكرها الأناجيل، ولا يخفى أنّ المتفاهَم من نشر الموتى لا يعمّ الإحياء المذكور في الأناجيل، بل هو إحياء ما تفرّقت أوصاله وبليت صورته.


وقوله "برء ذي العمى" لا يفهم منه البرء من العمى إلاّ بلعلّ وليت. ولو قال "برء العمى" لصحّ كلامه، فلفظة "ذي" لغو زائد يعود بالكلام إلى الخلل.


وقوله "ودينه الحقّ والسوى" إن أراد بواوه العطف على "معجزة الله" فهو واه مختل بسبب الفاصلة الأجنبية، وإن أراد الاستئناف فعلىمَ يعود الضمير في "دينه"؟! وماذا يكون موقع "السوى"؟! فإنّه وإن قيل: إنّه بمعنى العدل ـ من المساواة ـ لكنّه لم يرد في الصحيح من الكلام إلاّ وصفاً أو مضافاً إلى الموصوف فلا يصحّ عطفه على الخبر ابتداءاً.


هذه أغلاط هذا الكلام، وأمّا ركاكته وسخافة نظمه فأمرها


 


 


 


 


موكول إلى وجدان العارف بمجد الكلام العربى في بلاغته. ودع "حسن الإيجاز" يكثر في تمجيد هذا الكلام كما كتبه.


ومنه ما توهّم من منافاة التكرار في القرآن الكريم للبلاغة، ولا يخفى ـ على من له أقل إلمام بالفهم ـ أنّ للعرب وغيرهم في تكرار ما يعتنى بشأنه مقاماً راقياً يتسابقون إلى نيله حسب إعطاء المهمّ حقّه من البيان.


ولأجل أنّ الشواهد على ذلك كثيرة فالأوْلى بهذا المختصر أن يحيل بيان بعضها على الجزء الأوّل من كتاب "الهدى" صحيفة 368 إلى 374، وقد ذكر في أثنائها ما جاء في العهدين ـ وخصوص الأناجيل ـ من بعض التكرار الكثير.


ومن جملة ذلك أنّه تكرّر في المزمور المائة والسادس والثلاثين ستّاً وعشرين مرّة قوله "لأنّ إلى الأبد رحمته" وذلك لأنّ المزامير ناظرة باُسلوبها إلى مقام البلاغة، مع أنّ المزمور المذكور لا يبلغ نصف سورة "الرحمن"!


ومن ذلك تعرف حال "حسن الإيجاز" في أدبه وقوله الساقط: "والخلاصة أنّه ليس في كتاب مثل ما في القرآن من التكرار" ولعلّ ذلك لأنّ كتب وحيه ليس لها عنده قيمة تستحقّ بها أن ينظر إليها ويعرف ما فيها، فراجع كتاب "الهدى" فيما ذكرناه.


وإن كان المعترض يتعرّض لتكرار القرآن لقصصه، فهل يخفى على ذي المعرفة محلّ ذلك من البراعة والبلاغة وبيان القدرة على إيراد القصّة حسب مناسباتها بعبارات مختلفة كلّها راقية في مقامها من دون تناقض ولا اختلاف جوهري; لا كما وقع في الأناجيل من التناقض والاختلاف الجوهري الكبير الكثير في قصصها التي


 


 


تكرّرت فيها، مع أنّ كل واحد من الأناجيل لا يبلغ مقدار مجلّة شهريّة.


وكذا التوراة حيث تعرّضت لمراحل بني إسرائيل، فذكرتها في الثالث والثلاثين من سفر العدد، وكرّر ذكرها في العاشر من التثنية/ عدد 6 و 7 و 8، فوقعت في التناقض والاختلاف الباهض فضلاً عن خلل المناسبة وعدم الربط بالمقام. وفي هذا الاُنموذج من الاختلاف ها هنا كفاية.


ومن جملة ما تشبّث به مزاعم بعض القرّاء والنحاة في قراءتهم وخيالاتهم في اللغة العربية، وقد أشرنا في التمهيد أنّه لا اعتداد بتحكّمات الدخلاء والمولّدين وشكوكهم في اللغة العربية التي لم يصلوا بتعلّمهم الناقص إلى مزاياها ونكاتها وحقائقها.


وأمّا القسم الثاني فمنه ما توهّم من التغيير في قوله تعالى (وطور سينين)(1) وقال "وطور سيناء" ولا يخفى أنّ لهذا المسمىّ في اللغة العربية اسمين "سيناء" و "سينين" كما يسمّى في العهد القديم مرّة "سينَي" بفتح النون وإسكان الياء، ومن ذلك ما في التاسع عشر من الخروج / عدد 2 و 18 و 20، والمزمور الثامن والستّين / عدد 9، ونصّ في حاشيته على ذلك بقوله "فتح بأتنح"(2).


ويسمّى مرّة اُخرى "سيناى" بالفتحة المشالة إلى الألف، ومن ذلك ما في السادس عشر من الخروج / عدد 1، والتاسع عشر/ عدد 1 و 11.


____________


(1) التين 95: 2.


(2) أي بفتح وسطه.


 


 


 


 


 


وقد أقسم القرآن بالبلاد المقدّسة تعظيماً لشأنها، وكنّى بالتين والزيتون عن منبتهما وهي الأرض المقدّسة، أرض الموعد.. والتين فاكهة شهية وغذاء يتقوّت به الإنسان من دون مشقّة وعمل، فقُدّم على الزيتون إشعاراً بفضله، فإنّ عناية القرآن إنّما هي بمهمّات البلاغة من جهة المعاني لا بتزويق الألفاظ بالسجع الفارغ، فانظر إلى شطط "حسن الإيجاز" في هذا المقام.


ومنه ما توهّم من ضعف التأليف والتعقيد في قوله تعالى: (أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيّماً)(1) بتوهّم أنّ "قيّماً" حال من الكتاب، والواو في "ولم يجعل" للعطف، مع غفلته عن أنّه لا لزوم في هذا التحكّم، بل تكون الواو حالية و "قيّما" حالاً بعد حال، أو حالاً من ضمير "له"، ومعنى القيم: كونه قائماً باُمور العباد في المعارف والشريعة والإرشاد والإنذار، كما يقال: قيّم المرأة وقيّم اليتيم وقيّم القوم.


ومنه ما توّهم من تقديم ما يقتضي الحال تأخيره في قوله تعالى: (الرحمن الرحيم)(2) قال: "فإنّ الكلام موجب فيقتضي تقديم أدنى الوصفين للترقّي من الأدنى إلى الاعلى" والجواب: إنّ صيغة "فعلان" وإنْ كانت للمبالغة إلاّ أنّ في صيغة "فعيل" ما ليس فيها، وهو الدلالة على كون الوصف ذاتياً للموصوف كالعليم والقدير.


ومنه ما توهّم من تأخير مايقتضي الحال تقديمه في قوله تعالى (لا تأخذه سنة ولا نوم)(3) قال: "والمقتضى: نوم ولا سنة،


____________


(1) الكهف 18: 1.


(2) الفاتحة 1: 3.


(3) البقرة 2: 255.


 


 


 


للتدلّي من الأعلى إلى الأدنى".


والجواب: إنّ مقتضى الحال هو تقديم السِنة على النوم دون العكس وإنْ كان الكلام نفياً، لأنّ الأخذ بمعنى الغلبة، فالمناسب في الاستقصاء أن تنفي أوّلاً غلبة الضعيف وهي السِنة، ثم تنفي غلبة القوىّ وهو النوم، دون العكس، كما لا يخفى على غير البسطاء، كما تقول: لا يغلبك عشرة رجال ولا مائة، فإنّه لو قدّم المائة التي هي المرتبة العليا لزم التكرار والزيادة في ذكر العشرة التي هي المرتبة السفلى.


ومنه ما توّهم اللحن من نصب المرفوع في قوله تعالى: (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس)(1).


والجواب: إنّ النصب على المدح شائع معروف في اللغة العربية، وقد صرّح بذلك جملة من أهل الأدب، وترجيح (الصابرين) في الآية على قوله: (الموفون بعدهم) من جهة أنّ الوفاء بالعهد ـ مع كونه حسناً ـ يعمّ جميع أصناف الرجال مع اختلافهم من حيث النقص والكمال، وأمّا الصبر ـ المذكور في الآية ـ فلا يتّصف به إلاّ من كان في أعلى مراتب العقل والإيمان.


ومن ذلك تعرف شطط قوله: "لأن قوله: (الموفون بعهدهم) أوْلى منها لتقدّمها، ونفع الوفاء بالعهد ليس بأقلّ من نفع الصبر".


ومنه تعرف سقوط اعتراضه على نصب (حمّالة الحطب)(2) مع أنّ النصب على الذمّ يساوق النصب على المدح عند البلغاء في فوائده.


____________


(1) سورة البقرة 2: 177.


(2) سورة اللهب 111: 4.


 


 


 


 


 


 


 


وكذا قوله: "إذ (امرأتُه) أوْلى بذلك النصب من (حمّالة الحطب)" إذ لم يشعر أنّ الذمّ في نفس هذا الوصف والتوصيف لا في كونها امرأته!


ومنه ما توهّم من رفع المنصوب في قوله تعالى: (إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى)(1) الآية.


والجواب: إنّ عطف المرفوع على منصوب (إنّ) ممّا لا يمكن إنكار جوازه بشواهده المحفوظة في اللغة العربية.


نعم، مقتضى البلاغة أن يكون تغيير الاُسلوب لنكتة، والنكتة في الآية هي الإشارة إلى أنّ الصابئين وإن كانوا أشدّ بعداً من التوحيد الحقيقي إلاّ أنّهم مشتركون مع اليهود والنصارى في أنّ من آمن منهم وعمل صالحاً فهو آمن.


على أنّ المعلوم أنّ النبي صلّى الله عليه وآله كان من العرب الذين يُستشهَد بكلامهم على صحّة التركيب العربي، وأنّه اعرق بالعربية من الشعراء المولّدين الذين يُستشهَد بكلامهم على ذلك، فلو لم يكن كلامه وحياً من الله فلابُدّ أن نحكم بصحّته لكونه من العرب الذين يكون تكلّمهم باللغة دليلاً على صحّتها.


ثم لا يخفى على كلّ من يفهم أنّه لا يلزم في الكلام أن يكون كلّه متسلسلاً في أمر واحد بسيط كرواية رومانية. أفلا تنظر إلى خطب الملك إذ تتضمّن جملاً كلّ منها متكفّل بفائدة كبيرة في مهمات الإصلاح، كالوعظ والإنذار والتهديد والنظر في شؤون الخارجية والداخلية والعدلية والمعارف والنافعة والعسكرية وغيرها، والترغيب ببيان مجد المملكة والحكومة ونتائج ترقّيها، والتنبيه على


____________


(1) سورة المائدة 5: 69.


 


 


 


 


دسائس الأجانب في تهديدها إلى غير ذلك ممّا يهمّ الملك في الإصلاح حسب ما يقتضيه المقام من التنقّل في المهمات؟!


فهل يقول ذو عقل: إنّ خطبته قد انقطع بعض مضامينها عن بعض، فهي معيبة ليس لها شيء من مجد التسلسل الموجود في ألف ليلة وليلة، أو (رومان) زيدان، أو (أفسانة) حسين كرد؟!


كلاّ، بل انظر أيضاً إلى خطب الوزراء والاُمراء وأعضاء المجالس المللّية.


والقرآن جاء على أرقى نهج في الهداية والتعرّض لمهمّات الإصلاح العام، مع جريانه على البراعة بتهذيب اللفظ من الفضول، فمن فضله أنّ كلّ سورة منه جاءت مشتملة على عدّة مضامين عالية في الإصلاح يفهمها بأمجد إفهام، لا ككلام فارغ طويل في أمر واحد بسيط زهيد، أوَليس من الجهل قول "حسن الإيجاز": "ومن مزيلات البلاغة عدم المناسبة بين الآيات، فتراها في أكثر السور منقطعاً بعضها عن بعض أجنبياً عنه"؟!


ومن المضحكات استشهاده لجهله بسورة العلق! وحيث أنّه تعرّض لها بخصوصها، فلنقتصر على بيان البعض من مفادهامع قلّة ألفاظها، وقد تضمنت عدّة من المضامين العالية بأوجز لفظ وأظهر معنى في الامتنان بالخلق الباهر، وبيان فضل الله على الإنسان بنعمة المعرفة والعلم الذي هو الحياة الكاملة، والتنبيه على أنّ نوع الإنسان هلى يلتفت إلى عدمه وجهله وشرفه بعد ذلك بنعمة الوجود والعلم فيتواضع للعرفان والصلاح ويختار الهدى على الضلال؟ (كلاّ) بل يتغاظى بغيّة عن ذلك ويتناساه (ويطغى أن رآه) بوهمه (استغنى) وهو الفقير في جميع أحواله. وكفى بذلك موعظة وتوبيخاً يستلفت الحرّ


 


 


إلى رشده.


ولكنّ القرآن زاد في لطف الإرشاد وتعليم المعارف فهدّد الإنسان المتمرّد بأنّه إن لم يتّعظ بما ذكر بل اغترّ بتمتّعه بالنعم في زمان المهلة القصير في هذه الحياة (فإنّ إلى الله الرجعى) في يوم الحساب والنكال.


ثم ترقّى بالتوبيخ للإنسان على سفاهة ضلالة بالإشارة إلى ما يشاهد من سفاهته الفاضحة وأنّه لم يكتف بغواية نفسه بل ينهى غيره عن الصلاة التي هي رابطة الصلاح ومظهر المعرفة، فكم ترى في هذا الإنسان من الخسّة والسفاهة! وكيف تراه في الكمال والمعرفة والسداد (أن كان على الهدى) أوترقى لإرشاد غيره (وأمر بالتقوى) التي بها نظام الدين والدنيا.


ثمّ ترقّى بالتوبيخ للإنسان على استرساله وتهوّره في الغيّ وقال: كيف تراه مع وضوح ما ذكر من الحجج الساطعة (أن كذّب) بعناده (وتولّى) بتمرّده؟!


وانظر إلى الجمل الباقية الفاضلة في المضامين العالية، ثم انظر إلى انتظام جمل السورة بأجمعها في سلك إصلاح الإنسان بالامتنان بالنعم، وموعظته وتوبيخه وإنذاره وتهديده والتحذير منه.


وأظنّ أنّ تعصّب "حسن الإيجاز" لا يدعه يفهم ذلك لكي يصدّق به فإنّ داء التعصّب عضال.


الأمر السادس


قال "حسن الإيجاز": "ورأى بعضهم أنّ إعجاز القرآن ما فيه من أنباء الماضي، مع أنّ الذي ادّعى أنّه اُوحي إليه اُمّي لا يعرف القراءة.


وهي دعوى لم أقف على أوهى منها، فإنّ كثيرين من الشعراء الاُمّيّين نظموا كثيراً من أنباء الماضي، لأنّ الاُمّي يسمع ويحفظ، وحضرة نبي المسلمين كان يسمع أنباء الماضي من اليهود والنصارى والعرب وغيرهم، وكان يخالط بعض الرهبان والأحبار وعلماء اليهودية والنصرانية ويساعدوه وينصّرونه في أوّل أمره لتصديقه كتبهم، وأمل كل من الفريقين أن يكون منهم ويهدي الوثنيّين إلى دينهم، على أنّه كان ينسى بعض ما يحدّثونه به فيؤلفه وفيه خطأ كثير".


قلنا: لم يقل أحد إنّ إعجاز القرآن هو محض ما ذكره، بل إنّه أحد وجوه إعجازه ـ كما أشرنا ص 15 ـ وذلك أنّ القرآن اشترك مع العهدين في اُصول قصص كثيرة، ولكنّه خالفها بمخالفات كبيرة تعود إلى تصحيحهما وتهذيبهما ممّا فيها من خرافات الكفر وما ينجرّ إليه من الوقيعة في قدس الأنبياء، ولو كان رسول الله قارئاً ينظر إلى العهدين أو حافظاً يأخذ من اليهود والنصارى لنقل تلك القصص على خرافاتها، وكان ذلك هو اللازم له في تقرّبه إلى اليهود والنصارى والأسلم من نقدهم عليه بالمخالفة.


فلم تكن تلك المخالفات الجارية على الحقائق المعقولة إلاّ لصدورها عن وحي الله محقّ الحقّ ومزهق الباطل، والعقل والوجدان يشهدان بأنّ رسول الله الذي نشأ بين وثنيّين وحشيّين خالين من كلّ


 


 


 


المعارف، مجاوراً لليهود والنصارى والزاعمين بأنّ تلك الخرافات من وحي الله الصادق لو جاء بالقرآن من ناحية بشريّته لأثبت تلك الخرافات على شناعتها، وذلك لقصور أبناء جنسه في عصرهم المظلم ووحشيّة وثنيّتهم وجاهليّتهم العمياء عن إدراك خرافيّتها وكفرها مع شيوع كونها من وحي الله عند أهل الكتاب، ولكنّ وحي الله الهادي بيّن لهم ضلالهم في هذه الخرافات بأجمل إشارة.


وجاء في العهدين أيضاً قصص كفريّة وخرافية لا أصل لها، وهي ممّا يرغب أصحاب القصص في نقلها وإدخالها في ضمن مقاصدهم، ولو كان القرآن من ناحية البشريّة وأهوائها لوافق اليهود والنصارى أيضاً بذكر هذه القصص تقرّباً إليهم وافتخاراً عندهم وعند العرب بسعة ميدانه في العلم والوحي، ولكنّه (ما ينطق عن الهوى. إن هو إلاّ وحي يوحى)(1) فليقل "حسن الإيجاز" ما قال، وليكتب ما يكتب، فإنّا نشكره إذا كتب مخالفات القرآن للعهدين تفصيلاً لكي نعرّفه وأصحابه الحقّ من الباطل.


فمن جملة الخالفات أنّ القرآن تعرّض مراراً لقصة آدم والشجرة، فلم يذكر ما ذكرته التوراة الرائجة من نسبتها الكذبَ إلى الله جلّ شأنه، والصدق والنصيحة للحيّة، وخوفَ الله من حياة آدم، ومحاذرته من أن يكون آدم مثله فيهدّد مملكته، إلى غير ذلك من الخرافات، فراجع الفصل الثالث من سفر التكوين فإنّك ترى العجب.


وذكر القرآن قصّة مجيء الملائكة إلى إبراهيم للبشرى وإلى لوط بإهلاك قومه، ولكنّه لم يذكرهم تارةً ثلاثة، وتارة واحداً، وتارة


____________


(1) سورة النجم 53: 3 و 4.


 


 


اثنين، ولم يصفهم تارةً بصفات الله، وتارة بالملائكة، وتارة بالأكل من طعام إبراهيم ولوط; ولم يصفهم بعدم القدرة كما وقع كل هذه التناقضات الخرافية في التوراة، فراجع الفصل الثامن عشر والتاسع عشر من سفر التكوين.


وذكر القرآن قصّة طلب إبراهيم من الله أن يريه إحياءه للموتى ليطمئنّ قلب إبراهيم بمشاهدة ذلك من الحسّ زيادة على إيمانه الغيبي بهذه الحقيقة، اُنظر سورة البقرة آية 262، فكانت قصّته مخالفة أشدّ المخالفة لقصّة التوراة في وعد الله لإبراهيم بأنّه يرث أرض فلسطين وقول إبراهيم: بماذا أعلم أنّي أرثها فقال الله له: خذ عجلة وعنزاً وكبشاً ويمامة وحمامة، فأخذها وشقّها من الوسط، وجعل شق كلّ واحد مقابل صاحبه، وأمّا الطير فلم يشّقه فنزلت الجوارح على الجثث وصار إبراهيم يزجرها.


اُنظر في الخامس والعشرين من التكوين / عدد 7 إلى 12، فراجع المقام وانظر ما يناسب إيمان إبراهيم وأدبه مع الله، وما هو وجه حجّة الله التي تفيد إبراهيم علماً، وما هو محصّل القصّة وغايتها، وقل: بماذا يخرج ذلك الكلام عن الكلام الفارغ المبتور الخرافي؟! وطابقها مع قصّة القرآن وقل إن شئت بعد ذلك: إنّ كلام التوراة كلام الله وإنّ كلام القرآن كلام بشر اُميّ يخالف كلام الله في التوراة، وابتهج في نفسك بتمييزك!


وذكر القرآن قصص إرسال الله لموسى إلى فرعون ليعظه ويدعوه للإيمان وخشية الله وإطلاق بني إسرائيل من العبوديّة القاسية، وأنَّ موسى أراد أن يتعرّف البشرى بنجاح هذه الرسالة، وأنّهم لا يعاجلونه بالقتل والانتقام لصاحبهم، وسأل من الله جريان الرسالة


 


 


وحسن التبليغ والتأييد على أسبابها العادية في طلاقة اللسان والمؤازرة بالدعوة والإيمان، فطلب مشاركة هارون بذلك، فجرى القرآن الكريم من مكرّرات هذه القصّة على الوجه المعقول المناسب لجلال الله وقدس الرسول.


وحاشا كتاب الله أن يذكر ما ذكرته التوراة الرائجة من أنّ الله وعد موسى بالنجاح والمجىء ببني إسرائيل إلى أرض فلسطين، وموسى مع ذلك يرفض الرسالة بسوء الادب في الكلام، وأنّ الله جلّ شأنه افتتح الرسالة بأن أمر موسى أن يأمر شيوخ بني إسرائيل بالكذب على فرعون بقولهم: "إله العبرانيين التقانا" وأن يكذب موسى معهم بقولهم: "نذهب سفر ثلاثة أيّام لنذبح" وأنّ الله جلّ شأنه بعد تلك المواعيد لموسى التقى موسى في الطريق وأراد أن يقتله، فخادعته صفورة امرأة موسى فانفكّ عنه. وأنّ موسى يكون إلهاً لهارون ولفرعون، انظر الفصل الثالث والرابع والسادس من سفر الخروج.


ودع عنك ما تنسبه إلى قدس موسى من سوء الأدب في مكالمته مع الله، وأنّ الذي عمل العجل لبني إسرائيل إلها ودعاهم إلى عبادته هو هارون حينما كان الله يكلّم موسى في تقديس ثيابه ونصبه لرئاسة الدين، والقرآن الكريم يذكر أنّ الذي صنع العجل هو السامرىّ، أي الشمروني من عشيرة شمرون بن يساكر بن يعقوب، وأنّ هارون كان بريئاً من ذلك مغلوباً على أمره.


وذكر القرآن داود فوصفه بحسن العبادة والاستقامة، كما في المزامير الرائجة، وذكر قصّة الخصمين اللذين تسوّرا المحراب، انظر "سورة ص" وحاشا كلام الله أن يقرف نبي الله وحامل وحيه الزبور


 


 


 


بما قرفه به العهد القديم، من خرافة زوجة اُوريا والزنا بها، وحملها من الزنا وإرادة تمويه الحمل، والسعي في قتل اُوريا المؤمن المجاهد الناصح، انظر شناعة الفصل الحادي عشر والثاني عشر من صموئيل الثاني، وانظر إلى الثالث عشر أيضاً.


وذكر القرآن سليمان النبي بجميل الذكر وحسن الإيمان، وحاشا كلام الله أن يقرف نبي الله بكبائر المعاصي وعبادة الأوثان والإعانة على الشرك كما فعله العهد القديم، انظر الفصل الحادي عشر من سفر الملوك الأول، والثاني والثلاثين من الملوك الثاني / عدد 13.


وليت شعري كيف يجتمع ذلك مع قول العهد القديم: "إنّ الله قال لداود: سليمان ابنك، هو يبني بيتي ودياري، لأنّه اخترته لي ابناً، وأنا أكون له أباً"؟! انظر الثامن والعشرين من الأيام الاول / عدد 6.


ووصف القرآنُ المسيحَ بالبرّ بوالدته، وذكرت الأناجيل أنّ والدته مريم المقدّسة جاءته مشتاقة لرؤيته وطلبت أن يخرج إليها لتراه، فقال: "من هي اُمي؟! ومدّ يده إلى تلاميذه وقال:ها اُمي وإخوتي، لأنّ من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي واُختي واُمي" انظر ثاني عشر متّى / عدد 46 إلى 50، وثالث مرقس / عدد 31 إلى 35، وثامن لوقا/ عدد 19 إلى 21، فأين يكون برّه باُمّه القدسية البرّة مع انتهاره لها وحرمانها رؤيته والتنديد بقداستها وتفضيل التلاميذ عليها؟! وإن شئت أن تعرف حال التلاميذ فراجع الجزء الأول من كتاب "الهدى" ص 30 و 31.


وذكر القرآن براءة المسيح من ادّعاء الإلوهية والشرك والثالوث، كما في سورة المائدة / الآية 116 و 117; وإنجيل يوحنّا


 


 


 


يقرف قدس المسيح بالقول بتعدّد الآلهة والاحتجاج له، حيث يذكر أنّ اليهود نسبوه إلى الكفر وقالوا له: "إنّك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً فقال: أليس مكتوباً في ناموسكم أنا قلت: إنكم آلهة، ولا يمكن أن يُنقض المكتوب" انظر في عاشر يوحنّا / عدد 31 إلى 36.


هذا، مع أنّ الاستشهاد بالمكتوب في الناموس غلط واضح، فإنّ المزمورالثاني والثمانين يُعرف منه أنّه أورد هذا الكلام في مقام التوبيخ على دعواهم مراتب الإلوهية.


والحاصل أنّ القرآن بمخالفته للعهدين في هذه المقامات قد أشار إشارة جميلة إلى أغلاطهما الفاحشة وتصحيحهما بذكر الحقائق والمعقولة، وليقل صاحب "حسن الإيجاز" وأصحابه: "لأنّ نبي المسلمين اُمي لم يقع فيما وقع فيه العهدان من الأغلاط الخرافية الكفريّة" بل أورد هذه القصص وغيرها على الحقائق المعقولة، ولأجل ذلك لم يذكر ما ذكره العهدان من نسبة الزنا للوط بابنتيه، ولروابين بن يعقوب بزوجة أبيه، ولفارص بكنّته(1) ثامار، فصار من ذلك الزنا سبط يهوذا، ومنهم داود وسليمان، بل ولادة المسيح بزعم الأناجيل. ولداود بامرأة اُوريّا على الوجه الشنيع، ولأمنون بن داود باُخته ثامار بقيادة ابن عمّهما وصفح داود عن ذلك.


ولم يذكر أنّ الله تحيّر كيف يخدع أخاب، واستشار جند السماء فلم يوفق لوجه الكذب والخديعة إلاّ روح الكذب فاُعطي هذه المأمورية.


ولم يذكر أنّ يعقوب تصارع مع الله فغلبه، وأنّه انتهب بركة النبوّة من أبيه بالتزوير والخديعة والكذب المتكرّر.


____________


(1) أي امرأة ابنه المسماة بـ "ثامار".


 


 


ولم يذكر أنّ المسيح كذب على إخوته.


ولم يتّبع الأناجيل في تناقضاتها ـ كما اُشير إليها في كتاب "الهدى" ـ بل أشار بجميل الإشارة، بالوحي المطابق للعقل، إلى كذب ما نسبه العهدان من الكذب والمخادعة ليعقوب، والزنا الفاحش لداود، وعبادة الأوثان لسليمان، والقول بتعدّد الآلهة والأرباب للمسيح، وأوضح ذلك بقوله تعالى: "وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمّهنّ قال إنّي جاعلك للناس إماماً قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظالمين)(1).


كما أشار إلى بطلان نسبة العهدين إلى الوحي لما فيهما من التناقض والاختلاف بالحجّة العقلية على كرامة وحي القرآن بقوله تعالى: (ولو كان من عند الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)(2).


وإذا أردت بيان ما في العهدين من التناقض والاختلاف فراجع الجزء الإوّل من كتاب "الهدى" صحيفة 48 إلى 232، وستراه مفصّلاً إن شاء الله تعالى في "الرحلة المدرسية".


ألا وإنّه ليكفي من معجزات القرآن الكريم ما ذكرناه على الاختصار من الملاحظات التاريخية فضلاً عن غيرها.


وبما ذكرناه من حال القرآن في تصحيح أغلاط العهدين في التاريخ ـ مع أنّها كتب يدّعي نسبتها إلى الوحي ملايين من البشر في قرون متطاولة ـ تعرف شطط الاعتراض ـ ص 22 ـ على قصّة ذي القرنين، بدعوى مخالفة القرآن لبعض التواريخ المتخالفة في نفسها، ألا تقول من هو المؤرّخ؟! ومن أين عُرف صدقه وتحقيقه بحيث يتعرض


____________


(1) سورة البقرة 2: 124.


(2) سورة النساء 4: 82.


 


 


 


به على غيره؟!


الأمر السابع


في إبطال ما ذكره في الفصل الثالث، من أنَّ في القرآن كلاماً اُخذ من الرجال والنساء والشياطين بلفظه أو بشيء من التغيير، فهو ليس من وحي الله.


وذكر لذلك أمثلة منها قول عنترة: "وإذا ما الأرض صارت وردة مثل الدهان" وقول اُميّة: "من طين صلصال له فخّار" إلى غير ذلك من أوهامه فراجعها، ولايخفى أنّ القرآن نزل باللغة العربية، فهل يمنع عليه استعماله للألفاظ التي استعملها غيره من العرب؟! وهل قال أحد: إنّ بلاغة القرآن وإعجازه إنّما هو بمثل ألفاظ "وردةً كالدهان" و "صلصال كالفخّار" لكي يقال: إنّ هذا الإعجاز سبق به عنترة واُمية لو صحّت النسبة لهما؟!


وأمّا الاعتراض بذكر الفصيل واُمّه والصيحة فإنّه من فلتات التعصّب وبوادر الجهل، وليت شعري من قال لهذا المعترض: إنّ قصص القرآن المنزل للوعظ والتحذير، وبيان نعم الله على عباده، ونكاله بالمترّدين، وجلالة آثار النبوّة والصلاح يلزم ويشترط فيه أن يكون غير مسموع لأحد؟! أفلا يشعر هذا المعترض أنّ هذا الشرط مناف لحكمة التصديق والاحتجاج والتذكير؟! بل إنّ حكمة ذلك أن يورد القصص المأثورة في الجملة على حقيقتها وينزّهها عن الخرافات ويصحّح أغلاطها كما سمعته ـ ص 37 إلى 43 ـ في تعرّضه لبعض القصص المذكورة في العهدين.


وأمّا ما تشبّث به أخبار الآحاد التي لا يعرفها غالب المسلمين، ولا يحتفل بها أحد في الاُمور العلمية حتى رواتها، وذلك


 


 


في قوله "إنّ علماء المسلمين ذكروا أنّ من القرآن ما نزل على لسان بعض الصحابة" مع أن ذلك لوصح لم يضر بكون القرآن وحياً، لجواز أن تكون مصلحة الوحي والتشريع وحكمتهما قد اقتضت أن ينزل الوحي بعد ذلك القول من الصحابي. وقد ذكرنا في الأمر الأوّل ص 10 أنّ مباحثة أىّ مذهب وأية ديانة لا بُدّ وأن يكون بإيراد ما هو مسلّم بين جميع المتديّنين بذلك المذهب أو تلك الديانة


الأمر الثامن


في إبطال ما توهّم من نسبة الاغلاط إلى القرآن الكريم فيما نقل من أنباء الماضي، وهو على قسمين:


القسم الأول: ما توهّم فيه المناقضة، فحكم بكذب أحد الأمرين وهو قوله تعالى في سورة آل عمران: (وآيتك أن لا تكلّم الناس ثلاثة أيّام)(1) فتوهّم مناقضته لقوله تعالى في سورة مريم: (وآيتك أن لا تكلّم الناس ثلاث ليال سويّاً)(2) مع غفلته عن أنّ اليوم يُستعمل في اللغة العربية في بياض النهار مرّة، ومجموع النهار والليل اُخرى، وعلى الأول جاء قوله تعالى في عذاب عاد بالريح الصرصر في سورة الحاقة، الآية 7: (سبع ليال وثمانية أيّام حسوماً) وعلى الثاني جاء قوله تعالى أيضاً في عذاب عاد في سورة فصلت، الآية 15: (في أيّام نحسات) وقوله تعالى في سورة هود، الآية 68: (تمتّعوا في داركم ثلاثة أيّام) وقوله تعالى في أمر زكريّا: (ثلاثة أيّام)(3) وقوله تعالى في سورة البقرة، الآية 51: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) وقوله تعالى في أمر زكريّا: (ثلاث ليال سويّاً)(4) وشواهده من الشعر والنثر كثيرة.


ومثله أيضاً في اللغة العبرانية كثير، فقد جاء على الأول قول التوارة في ميعاد موسى أربعين يوماً وأربعين ليلة اُنظر الرابع والعشرين من الخروج / عدد 18، والرابع والثلاثين / عدد 28، وتاسع التثنية / 


____________


(1) سورة آل عمران 3: 41.


(2) سورة مريم 19: 10.


(3) سورة آل عمران 3: 41.


(4) سورة مريم 19: 10.


 


 


 


عدد 9 و18 و25.


وعلى الثاني قول التوراة "فكان صباح وكان مساء يوماً أوّلاً، وثانياً" وهكذا إلى السابع. اُنظر تمام الفصل الإّول من التكوين، وثاني عشر الخروج / عدد 18 ومثله كثير في التوراة.


وإن أراد الاعتراض، فعليه بإنجيله الرائج، فإنّ إنجيل متّى يذكر في الباب الثاني عشر / عدد 40 أنّ المسيح أخبر أنه يبقى مدفوناً في بطن الأرض ثلاثة أيّام وثلاث ليال، مع أنّ إنجيل متّى والأناجيل الثلاثة الباقية متفقة على أنّه لم يبق في الأرض إلاّ يسيراً من آخر يوم الجمعة، وليلة السبت ونهار السبت، وليلة الأحد إلى ماقبل الفجر; فأين تكون الثلاثة أيّام وثلاث ليال؟! فانظر اُخريات الأناجيل في دفن المسيح وقيامه.


وأمّا القسم الثاني: فهو ما رأى فيه المخالفة لما ورد في العهدين، فتوهّم كذب القرآن الكريم بتوهّم أنّهما هي الكتب الإلهامية المنزلة إلى الأنبياء عليهم السلام.


هكذا قال، ولكنّ له الأسف من أنّ داخلية كتب العهدين تُبطِل كونها كتب وحي وإلهام، وقد بيّنا شيئاً من ذلك في ص 16، كما بيّنا ص 37 إلى 43 أنّ مخالفات القرآن للعهدين في قصصها إنمّا هي تصحيح لأغلاطها في تلك القصص و تنزيهها من الخرافات الكفر.


ومن أغلاطه قوله: "إنّ المحراب هو قدس الأقداس" فاعترض به على القرآن في قصّة مريم وزكريّا مع أنّه في العربية مطلق المحلّ المعدّ للصلاة.


وإذا أحطت بما ذكرناه عرفت توهّم "حسن الإيجاز" حيث قال: "إنّ علماء المسلمين قالوا بالمحال، وهو تحريف التوراة الإنجيل،


 


 


 


 


مع أنّ القرآن صدّقها واعتمد عليها".


وتعرف أنّ القرآن إنّما صدّق التوراة والإنجيل الحقيقيّين دون الرائجين اللذين ملئا بأغلاط الكفر والخرافات والاختلافات الكبيرة، فاعتنى القرآن بتصحيح ما يدخل منها في مواضيعه فأشار إلى أغلاطهما بأجمل إشارة واضحة، وتفصيل ما ذكرناه موكول إلى إيضاح "الرحلة المدرسية".


ألا وإنّ العهد القديم يشهد بعضه على بعض، اُنظر الثالث والعشرين من ارميا/ عدد 36: "وأمّا وحي سيّدي فلا تذكروه بعد، لأنّ وحي سيّدي لإنسان كلامه، وقد حرّفتم كلام الإله الحيّ ربّ الجنود إلهنا" وثامن ارميا أيضاً / عدد 8: "كيف تقولون نحن حكماء وتوراة سيّدي معنا، هو ذا للكذب حوّلها قلم كذب الكتبة".


ألا وأنّ المزمور العاشر بعد المائة يشهد على أناجيل متّى ومرقس ولوقا بتحريفها بقولها: "قال الربّ لربّي" اُنظر ص 20، ولكن من أين يعرف "حسن الإيجاز" هذه الاُمور؟!!


ومن جميع ما ذكرناه تعرف شططه في خاتمته من دعاويها التي أوضحنا كذبها وبطلانها، وقد قصرنا كلامنا في هذا المختصر على ذلك.


وليعلم أصحابنا النصارى أنّا لا نبتدىء في هذه الاُمور، وإنّما نتصدّى لها لصدّ بعض المغرورين عن عدوانهم بالأباطيل التي كثر بها الهياج في هذا العصر.


ونسأل الله أن يهدي عباده إلى سواء السبيل، والحمد لله أوّلاً وآخراً.